قصة قصيرة : وجبة كاملة الدسم

خلف عضو منضبط في المجتمع لا يحب الدين فإن كان في جيبه هللة سيأكل في ذلك اليوم بمقدارها وإن لم يمتلكها لا ضير لديه في أكل القليل من التمر مع حليب أو لبن الماعز ويكتفي بذلك دون أن يكون للناس حقوق في ذمته ويرى أن تلك الطريقة أبعدته عن المشاكل والقيل والقال وقهر الرجال ومذلة الدين آناء الليل وأطراف النهار.

 لم يكن خلفا رجلا فقيرا معدما ولا غنيا مترفا بل رجل يعيش على الكفاف برفقة زوجته مستورة وأبنائه محمد وهلال حيث يعمل خلف حارس مدرسة بنات وزوجته مستورة تعمل فراشة في ذات المدرسة ويعيشون في منزل شعبي متواضع ويعيش معهم في الحوش عدد من الحيوانات الداجنة من الغنم والدجاج ونحو ذلك من حيوانات المنازل في سبعينيات القرن العشرين.
لا يحظى خلف بالكثير من العلاقات مع الناس فطبيعته الغامضة وصمته الدائم يجعل مستوى علاقاته مع الناس سطحي للغاية ولكن الرجل اشتهر بالكرم فما أن يطرق بابه أحد من الناس حتى يجد لديه كرم الضيافة وحسن الإستقبال.
في سبعينيات القرن العشرين لم تكن فكرة الفنادق قد تبلورت بشكلها المعروف حاليا لذا كانت الناس تبحث عن أقاربها للمبيت لديهم في حال زيارتهم لمنطقة بعيدة عن منطقتهم لذا كان منزل خلف مقصدا لأهل قريته الذين يزورون المدينة لأسباب مختلفة مثل العمل والعلاج وزيارة المرضى وغير ذلك من الأسباب التي تلزم البعض بالمبيت لدى خلف.
في احدى الليالي وبعد صلاة المغرب سمع خلف صوتا ينادي من الخارج "يا ولد .. يا أهل البيت" فخرج خلف و وجد رجلين من أهل قريته قادمين للتسجيل في إحدى الوظائف الحكومية فرحب بهم و دعاهم لدخول المنزل
• اقلطوا حياكم الله 
جلس الضيوف في المجلس، وذهب خلف إلى زوجته لكي تتجهز لطبخ العشاء ريثما يقدم القهوة لضيوفه، ثم قام بذبح إحدى الأغنام لإكرام ضيوفه وأبناء قريته.

بينما كان خلف مع ضيوفه يقدم لهم القهوة والتمر، بدأ يسألهم عن أحوال القرية وأهلها حتى تنتهي زوجته من طبخ العشاء.

• عسى الربيع اللي جاكم هالسنة زين؟
• لا والله المطر قليل والربيع ما سد الحلال
• يعوضكم الله , إلا مذكر ولد نياف وش صار عليه؟
• زي ما هوه !
• الله يشفيه 
في أثناء تبادل الأحاديث الودية جاء محمد ابن خلف ينادي أباه لأمر ما , استأذن خلف من ضيوفه وذهب يستوضح سبب مناداة محمد له فقال له الطفل أن والدته تقول أن العشاء قد نضج وأصبح جاهزا من أجل تقديمه للضيوف
• روح لأمك قول لها تغرف العشاء وعطنا السفرة 

ذهب محمد ليفعل ما طلبه أبوه وفي هذه الأثناء كان هناك من ينادي بجوار الباب "يا أبو محمد" فذهب خلف ليرى من الذي ينادي فإذا هم عبدالله بن بريك و سالم الضامي وهم رجلين من منطقة بعيدة يعرفان خلف حيث سبق لهم العمل سويا في نقل العمال والمعدات لدى احدى الشركات التي تعمل على تعبيد أحد الطرق السريعة قبل أن يترك خلف العمل في الشركة ويحصل على وظيفته في وزارة المعارف بينما استمر عبدالله وسالم في عملهم وصحبتهم.
• يا هلا يا مرحبا حياكم الله
• البقى والعمر الطويل 

رحب خلف بضيفيه وأدخلهم إلى المجلس برفقة الضيوف السابقين وذهب إلى زوجته من أجل إحضار العشاء وبالفعل جاء خلف حاملا صحنا كبيرا مليء بالأرز وفوقه اللحم "مفطح" ويتبعه ابنه محمد حاملا الماء ليقف به ريثما ينتهي الرجال من الأكل , قدم خلف الوليمة لضيوفه ثم دعاهم للأكل

• اقلطوا حياكم الله على قل الكلافة

تقدم الضيفين الأولين للعشاء وهم يشكرون خلف على  إكرامهم وهو يتعذر منهم ان بدر منه أي تقصير ، بينما ظل عبدالله وسالم جالسين في أماكنهم مما لفت انتباه خلف:
• اقلطوا يا رياجيل و واجبكم باقي
رد عبدالله
• لا والله ما نقلط على واجب ما هو واجبنا ولا نأكل سور غيرنا
• يا ابن الحلال واجبكم باقي ومن أصبح أفلح ولا وش رايك يا سالم؟
• رأيي مثل رأي خويي !

عبدالله وسالم يعملان منذو فترة طويلة مع الأجانب في أعمال البنية التحتية التي شهدتها المملكة بعد الطفرة النفطية ويعرفان بعض الكلمات "الإنجليزية" وهذا ما أشعرهم بالتميز في قرارة أنفسهم وجعلهم ينظرون إلى الآخرين من الأعلى على الرغم من أن الرجلان لا يعرفان الفرق بين الالف والعصا لكن "yes" و "no" تركت بصماتها على الصديقان.

تعجب خلف من موقف الرجلين ولكنه كتم غيضه وطلب من ضيفيه الأكل واستأذن منهم وذهب إلى شبك الغنم وأخرج منه أهزل وأضعف خروف يملكه ثم قام بذبحه وسلخه وهو يفكر كيف ينتقم من ضيوفه المتعجرفين الذين تكبروا على النعمة وطالبوا بخروف كامل "يدسم شواربهم"!
ذهب خلف الى زوجته من أجل طبخ عشاء الضيفين الآخرين:
• ليش ذبحت ذبيحة ثانية ؟!
• بعدين أعلمك , اسمعي اللحم لا يستوي من يوم ياخذ شوي في القدر ارمي عليه الرز والرز بعد لا يستوي!
• أبشر
عاد خلف وتعشى برفقة ضيوفه ثم أرسل ما تبقى من العشاء إلى زوجته وأبنائه وأحضر مخدات وبطانيات من أجل مبيت الضيفين وأخذ يتجاذب أطراف الحديث مع الجميع حتى جاء محمد مرة أخرى لينادي أباه الذي فهم المغزى وذهب إلى زوجته وأحضر عشاء عبدالله وسالم وقدمه لهم 

• اقلطوا على واجبكم الله يحييكم

جلس عبدالله وسالم حول الصحن  بينما ذهب خلف وعاد وهو يحمل عصا غليظة تسمى "المشعاب" وعينيه تحمل حقدا وغلا على عبدالله وسالم

• كلوا واجبكم كله وإلا والله لأفقع رؤوسكم بالمشعاب

شعر عبدالله وسالم بالخطر والحرج في الوقت ذاته ولكنهم مدوا أيديهم إلى الطعام في ظلام دامس فقد أطفئ خلف الفانوس وجعلهم يعتمدون على الإحساس وتفاجئوا بعدم نضج اللحم والأرز و باتت رحلتهم مع العشاء رحلة مع العذاب حيث يقف خلف بمشعابه الذي ينوخ أكبر "بعير" وأمامهم أرز ولحم لا يمكن أكلهم بسهولة ومطلوب منهم أكل كل الكمية.
نام الضيفان القديمان بينما سرى الليل وعبدالله وسالم لم يأكلوا إلا القليل من الكمية وبين اللقمة والأخرى يغص أحدهم بلقمته وكل منهم يحدث نفسه لماذا فعلنا هذا بأنفسنا لو أننا أكلنا ولم نرفس النعمة لكنا الآن نغط في سبات عميق.
تعب خلف من الوقوف وتعب عبدالله وسالم من الأكل فطلبوا من خلف أن يسمح لهم بغسيل أيديهم فسمح لهم بذلك لكن لم يخدمهم ولم يوقظ ابنه محمد من نومه لمساعدتهم بل تركهم كل واحد منهم يغسل يد الآخر وبعد مضي اللحظات العصيبة طلب سالم من خلف فراشا للمبيت فما كان من خلف إلا أن رفع مشعابه ملوحا به فوصلت الرسالة دون أن يتكلم فأستأذن الرجلان وغادرا منزل خلف دون عودة لكن حتما لن ينسوا وجبة خلف "كاملة الدسم" إلى الأبد فقد اعطتهم درسا لا ينسى في صون النعمة ، في الصباح الباكر نثر خلف الأرز للطيور وأكرمهم فهم أحق من "الخواجات" على حد وصفه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هوبال: فلسفة النجاة بالهلاك

لماذا يا عنز الشعيب؟