هوبال: فلسفة النجاة بالهلاك


 


"الأفكار لا تموت لكنها تقتل"، هذه العبارة تصف بدقة أثر استمرار الفكرة وتناقلها دون إدراك كامل لمعناها، وكيف يمكن أن تتحول النوايا النبيلة إلى مأساة تجر معها الهلاك. هذا الانطباع ظل يرافقني منذ أن شاهدت فيلم هوبال للمخرج السعودي الفذ عبدالعزيز الشلاحي والذي يعد أحدث إنتاجات السينما السعودية التي تعقد عليها الآمال، حيث تتجسد فكرة المقولة أعلاه بوضوح من خلال مجتمع "البادية" الذي يشكل مسرح للأحداث وصورة مصغرة عن حال أي مجتمع تسيطر عليها "الآيديولوجيا". 
 في حكاية الفيلم التي صاغها الكاتب الأكثر تأثيرا في السينما السعودية اليوم مفرج المجفل نجد أن جوهر الفكرة التي آمن بها الأب "ليام" يتلخص في مفهوم "النجاة" من العذاب الأخروي ومن أجل هذه الغاية النبيلة في معناها ومقصدها آثر أن ينعزل بأسرته الصغيرة في الصحراء بعيدا عن "فساد" المدينة وعلاقاتها الملوثة والتي تسببت حسب ما يعتقد "ليام"  في ظهور علامات الساعة واقتراب يوم الحساب الذي يريد "ليام" أن يذهب إليه وهو بريء من دنس المدينة وذنوبها حاملا ثوب الطهارة الذي اختاره لنفسه ولذريته من بعده وكأنه أراد أن لا يتلطخ اسمه بأي عار في الدنيا والآخرة.
في بداية الفيلم تعرفنا على عالم "آل ليام" وهو عالم تحكمه القوانين الأبوية الصارمة التي تسببت في وفاة الحفيدة "غزيل" كقربان للتحريم شبه المطلق الذي يفرضه الجد على الخروج من الصحراء ودخول المدينة مهما كانت الحاجة ملحة ولم ينفذ من تلك "الفتوى" بتحريم دخول المدينة سوى بعض الأبناء الذين حفظوا القرآن الكريم الذي يرى الأب أن حامله لا يمكن أن ينجرف خلف ملذات الدنيا التي تعج بها المدينة.
 إن معظم الأفكار تنشأ في بدايتها لغايات نبيلة ولكن مع مرور الزمن قد تنحرف وتتطرف أيضا في انحرافها , فعلى سبيل المثال لم يكن هدف كارل ماركس قتل الملايين بنظريته الشيوعية ولكن أتباعه فيما بعد حينما تطرفوا قتلوا الملايين من البشر دون أن ترمش جفونهم وكذلك بدأت فلسفة ليام بالنجاة ثم انحدرت إلى قاع الهلاك بفعل الطاعة العمياء للأب التي تفرضها العادات وقبل ذلك الدين فالتعاسة في الحياة خير من الوصم بعبارة "غضيب والدين" في مجتمع البادية ومجتمعنا بشكل عام.
وتطرق الفيلم إلى مفهوم القناعة وفق المصلحة الذي جسده الإبن "شنار" فهو وريث أفكار أبيه الشرعي ليس من باب الإيمان المطلق بالمبادئ والأفكار والفلسفة التي يعيش وفقها الأب بل من باب الحفاظ على "الامتيازات" الخاصة التي يحصل عليها دون بقية إخوته فهد الوحيد المسموح له بدخول المدينة ودفن أسراره التي تجلب "العار والشنار" فيها دون أن يحمل هم الفضيحة.
كذلك عرفنا الفيلم على قلة الحيلة فنرى "سرّا" تقاتل من أجل نجاة ابنتها  من مرض "الحصبة" الذي لم يعد مرضا خطيرا في زمن أحداث الفيلم بيد أن قوانين "ليام" جعلت منه طاعونًا يفر منه المرء فراره من الأسد , فشلت جهود "سرّا" و تملكها اليأس رغم انها كانت مقاتلة شرسة ولكن بلا أدوات تجلب "النصر" .
تحريك المياه الراكدة يحتاج إلى جرأة شخص ليس لديه ما يخسره وهنا ظهر "عساف"  الطفل يتيم الأبوين الذي ورث من والده صفات الشهامة وقص الأثر و كان رقما هامشيا في منظومة "ليام" فلا يكترث الرجال بأراء "الورعان" غير أن الرجولة لا تقاس بالعمر دائما فشهامة "عساف" الذي كان يحب ابنة عمه "ريفة" ويرى كل يوم أمها "سرّا" وهي تبذل جهدها لعلاج ابنتها دون جدوى دفعته إلى المغامرة والذهاب الى المدينة من أجل علاج ابنة عمه مستغلا فترة غياب جده "ليام" عن المكان.
رأى عساف المدينة لأول مرة وعاد منها حاملا "البشرى" و "العذاب" حيث تكشفت الأسرار و سقط قناع المبادئ و "التقوى" و ما كان "حرامّا" أصبح اليوم "حلال".
 معتقدات وأفكار "ليام" لم تكن راسخة في النفوس بل يقمع معارضتها العيب والعادات والتقاليد لذا حينما كسرها عساف ولو جزئيا استطاع تحرير الآخرين من قيود الجد الصارمة وكان جسر عبورهم ما بين "الانعزال" و "الإنفتاح" ورؤية العالم من مكان آخر.
تمكن المخرج عبدالعزيز الشلاحي من خلق عالم متكامل يعكس عزلة الأسرة عن العالم الخارجي حيث نرى أن حرب طاحنة بالقرب من الصحراء هي مجرد خبر عابر في راديو سيارة "بتال" وهذا توظيف رائع لمعنى العزلة التي أراد الفيلم أن يوصلها لنا . 
أما التفاصيل البصرية كانت رائعة بالمجمل ورأينا صورة سينمائية فائقة الجودة نقلت لنا أجواء الصحراء وتفاعل الشخصيات وحياتهم اليومية في عالمهم المحدود بشكل رائع.
أبدع طاقم التمثيل في تجسيد الشخصيات، خصوصًا حمدي الفريدي بدور "بتال"، الشاب الذي يعيش في صراع مع آلامه الشخصية وتبددت أحلامه الصغيرة فبات يعيش في دائرة مغلقة لا يلوح في أفقها مخرج للنجاة . 
كما تألق مشعل المطيري وإبراهيم الحساوي في أدوارهم مؤكدين على ما هو مؤكد حول قيمتهم كممثلين في صناعة السينما السعودية , أما  الطفل الذي أدى دور "عساف" قدم أداءً استثنائيًا بالنسبة لعمره  وتلك السيدة التي لعبت دور "أم شنار" أبهرتني بتلقائيتها وصدقها , والتحية كذلك لميلا الزهراني التي تفوقت على نفسها في هذا الفيلم.
هوبال ليس مجرد فيلم سعودي، بل هو مرآة تعكس واقعًا يشبهنا. كلنا نعرف أشخاصًا مثل "ليام" و"شنار" و"بتال"، ونواجه في مجتمعاتنا تحديات مشابهة بين المحافظة على القيم وبين التكيف مع تطورات العصر. المحلية الراسخة في هذا الفيلم هي الجسر الذي يمكن أن يعبر به إلى العالمية، حيث إن القصص التي تحمل طابعًا أصيلًا غالبًا ما تكون الأكثر تأثيرًا.

يُعد فيلم هوبال تحفة سينمائية تتحدى المألوف، وتطرح تساؤلات جريئة حول تأثير الأفكار على حياتنا , وإسقاط رمزي ذكي على فترة عاشها المجتمع السعودي دون مباشرة فجأة بل بأدوات أدبية وسينمائية ممتعة فكتابة مفرج المجفل وإخراج عبدالعزيز الشلاحي، إلى جانب الأداء التمثيلي الرائع، جعلوا من هذا الفيلم عملًا يستحق الوقوف عنده طويلًا. إنه دعوة للتفكير والتأمل في كيفية تحول الأفكار من وسيلة للنجاة إلى أداة للهلاك.



تعليقات

  1. ألف شكر لك على القراءة والتعليق والتعقيب , وسعيد جدا بأن المقال نال على استحسانك و استطاع أن يفتح لك نافذة جديدة لرؤية الفيلم من زوايا مختلفة , مرة أخرى ممتن لك على رأيك الذي أسعدني جدا و أعتبره وسام على صدري

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا يا عنز الشعيب؟

قصة قصيرة : وجبة كاملة الدسم