قصة الطفل الجولاني
فكرة الرحيل بحد ذاتها فكرة مفزعة للناس لأن الفقد يؤذي أرواح الأحياء ويجرحها جروحا قد لا تبرأ حتى مرور الزمن.
هي كذلك حكاية الطفل الجولاني الذي تهجر قسرا بفعل الاحتلال الغاشم عن بلدته في الجولان واستقر به الحال في مخيم للاجئين الفلسطينيين في دمشق
هذا السطر من حكاية الطفل كفيل بقلب حياته رأسا على عقب وربما تحولت نقمته على ضياع أرضه إلى نقمة سلبية تقوده إلى المجهول بيد أن الطفل الجولاني قرر التنفيس عن غضبه بشكل آخر وأنتظر الفرصة المواتية لفعل ذلك.
كبر الطفل وأصبح الشاب حاتم علي صاحب الذاكرة التي تكتنز صورا ومشاهد مؤلمة للنازحين من أراضيهم ، وأصواتا يتردد صداها بحكايا المتعبين من المجهول وأخرى مثقله بالهم لكنها تبعث الأمل بقصص التاريخ المجيد الذي بات يرقد بين الورق ولا يزوره إلا القلة من الناس.
استجمع حاتم ثقافته وذاكرته الحية كأصول ضخمة ينفق منها على مشروعه الفني بسخاء شديد ودون خوف أو وجل من النضوب.
فمن الذاكرة الشعبية وصوت الحكواتي في (مقاهي) الشام طرز لنا حاتم علي حكاية الزير سالم لتخرج بحلة هي الأجمل على الإطلاق من بين تلك التي حاولت أن تحكي لنا الحكاية التي مازالت مرتبطة بإسم حاتم وسلوم حداد وتحصد النجاح تلو النجاح يوما بعد آخر.
ثم أدرك حاتم أن الوقت قد حان لإعتلاء المنبر وشحذ الهمم وسرد التاريخ والوقائع واستنهاض الشباب بتلك الحكايا التي يجهلون أغلبها فتصدى حاتم بالشراكة مع الدكتور وليد سيف لمهمة احياء التاريخ من مرقده و اعادة تجسيد شخصياته على الشاشة متبعين في ذلك الدقة قدر المستطاع في النقل والعذوبة والفصاحة في الحوار والشموخ والكبرياء في التجسيد.
صب حاتم علي تراكمات الغضب والألم في قالب إبداعي نتيجته النهائية أعمال تاريخية هي رأس السنام في الدراما العربية ومرجعها الأهم و سفيرها الذي تفاخر به فنيا بين الأمم.
تعرفنا على صلاح الدين برؤية ابن الجولان الذي مات وهو يأمل بعودة الأراضي المحتلة على يد رجل كصلاح الدين ، ثم أخذنا حاتم في رحلة هي الأمتع بقصصها وألوانها وموسيقاها وغنائها هنالك حيث الأندلس بقصورها وشعرائها وساستها الأقوياء ثم الضعفاء الممزقين على مشارب عدة وكأنه يرسل رسالة للحاضر كونوا مثل أولئك ولا تكونوا مثل هؤلاء.
ولم ينسى حاتم قضيته الأساسية فسرد لنا قصة (التغريبة الفلسطينية) وصور لنا بشاعة الاحتلال بكل جوارحه ومشاعره وكأنه استعاد من ذاكرته كل الحكايا التي سمعها بين جدران وأزقة مخيم اليرموك ليعرضها لنا كصورة بانورامية تنطق بلسان كل الألسن المتعبة وتقشعر منها الآذان والأبدان السامعة والأعين المبصرة لسفالة العدو وبشاعته.
وفي عام 2012 توج حاتم ملكا بلا منازع على عرش الدراما العربية بعد أن قدم مسلسل عمر رضي الله عنه الذي روى لنا سيرة الفاروق وثاني الخلفاء الراشدين بشكل شاعري يجعل المشاهد يتمنى لو أنه كان حجرا ملقى على قارعة الطريق في زمن أولئك الرجال الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين.
في التاسع والعشرين من ديسمبر 2020 ترجل الملك عن عرشه دون أن يترك خليفة له ومن ذلك اليوم والدراما العربية التاريخية تعيش حالة اليتم وتخشى الضياع فأبوها الحنون بات يرقد تحت الثرى بعد رحيل مفاجئ هز الملايين من الناس بمختلف مشاربهم ومعتقداتهم.
الطفل الجولاني بات جزء من جميع البيوت في الوطن العربي لذلك لا غرابة في أن تجد له بواكي في كل مكان لم يلتقوا به يوما قط ولكن ألتقوا بفنه الراقي فأحبوه كواحدا منهم احترم عقولهم ولم يخدش حياؤهم لذلك ما زالت القلوب والجوارج تدعوا له وتتذكره بالخير ،وما مشهد جنازته المهيب في عز الظروف الصعبة إلا دلالة على المحبة الجياشة والجارفة التي يحملونها الناس لإبن الجولان وسوريا المثقف وصاحب القضية الفنية الراقية حاتم علي
الختام
ما تختصر مسيرة حاتم مقالة
تعليقات
إرسال تعليق