مذكرات الأيام الرمادية /11

…. نظر نهاوند لسرمد نظرة تنطق بالغضب ولم يعبر عن غضبه بلسانه بل ظل صامتا يرمق سرمد وسرمد يضحك على تلك النظرات ثم نزل من السيارة وجلب الكرسي المتحرك من (شنطة) السيارة وفتح الباب لينزل نهاوند الذي ما زال صامتا غاضبا فبادر سرمد بضربه على صدره قائلا له (خلاص لا تسوي فيها زعلان تخيل نخسر بعض عشان رقصه؟).

هدأ نهاوند ثم تكلم بنبرة جادة ومنخفضة (علاقتنا راح تنقطع الليلة إذا ما رقصت سامبا مثل رونالدينهو) وهنا ضحك سرمد ورد عليه (قول انك تبغى تقطعها من زمان يا حيوان !) وتجلت ضحكات الصديقين وبات منظرهما جالبا للانتباه من غرابته.

أخذ سرمد يدفع الكرسي المتحرك ويحادث نهاوند (يقولون نظام الكيتو مفيد للرجيم) فيلتفت له نهاوند وعلى وجهه علامة استفهام قائلا (وش قصدك؟) وهنا تنحنح سرمد وقال (أبد معلومة عامة) ليرد نهاوند (آها .. مثل معلومة رقصة السامبا!) فضحك سرمد وواصل دفع الكرسي حتى توقف عند نقطة معينة كاشفة للملعب حتى يستمتع نهاوند بمشاهد مهارات كرة القدم التي يمتلكها سرمد .

بدأت المباراة ونهاوند يراقب صديقه سرمد الذي انهمك في المباراة غير أنه أثبت للعالم بأسره بأن علاقته بالرقص الكروي عكسية فقد تم (ترقيص) سرمد من جميع اللاعبين ولم يستطيع سوى (ترقيص) الهواء ولم يخفي نهاوند شماتته بسرمد وتعالت ضحكاته و هو يهتف (سامبا .. سامبا .. هوه .. هوه) .

انتهت فقرة الرقص البائسة وعاد سرمد وصوت أنفاسه يسمع من مسافة بعيدة ثم جلس على الأرض بجانب نهاوند وظهر على وجهه آثار التعب وبدأ يتأوه من آلالام المفاصل والعضلات وهنا لم يستطع نهاوند الصمت أكثر فبادر بالقول (يا أخي ليش تتفلسف ورقص سامبا ومدري أيش  يوم انك عاهه في الكورة؟) وهنا رفع سرمد رأسه وهو ما زال متعب من المباراة ورد على صديقه بالقول (مو لازم أكون لعيب المهم أكسر الروتين) وهنا هز نهاوند رأسه كعلامة على تأييد ما قاله سرمد.

خرج الصديقان من الملعب واتجها للجلوس في ممشى أحد الأحياء القريبة من الملعب وهنالك أخرج نهاوند علبة الدخان وأشعل سيجارة وبدأ بالتدخين وظل الصمت حاضرا لبضع دقائق حتى أتى بائع الشاي وأعطى الصديقان طلبهما ورحل , هنا تدخل سرمد كاسرا حالة الصمت وقال (تصدق من زمان ما حسيت بطاقة ايجابية مثل اليوم) فنظر له نهاوند وقال بعد ان شرب قليلا من الشاي ( الشاهي اسطوري ! والحمدلله أنك انبسطت اليوم وان شاء الله دوم) وفي هذه الأثناء مر شاب مع طفل صغير يبدو انه ابنه أو أخيه الصغير وفي تلك اللحظة توقف الزمن لدى سرمد وبات يراقب المشهد وهو صامت ولا يبدي أي ردة فعل ونهاوند يراقب ما يحدث .

 بعد لحظات من الصمت والمراقبة أصدر نهاوند صوت (كحة) لينبه سرمد عن ما يجري غير أن سرمد ظل على حاله حتى قال له نهاوند (يا هوووه .. نحن هنا!) فتكلم سرمد غير أن أنظاره لا تزال تراقب مشهد الشاب والطفل اللذان ابتعدا عن الأنظار وبات اختفائهما عن المشهد قريبا جدا وهنا نطق سرمد قائلا : كم تمنيت لحظة مثل هذه !

ليبادر نهاوند بتذكيره عن الاتفاق الذي تم بينهما بشأن الذكريات القديمة واعدامها لكن يبدو أن لدى سرمد الكثير من الذكريات التي لا يستطيع اعدامها بسهولة فهي ترتبط بشكل أو بآخر بمؤثرات خارجية تثير وجدان سرمد المثقل بالأسى لذلك كان الرد هنا من سرمد قاطعا (مو كل الذكريات نقدر نعدمها يا صديقي , بعض الذكريات مثل ظلك معك في الليل والنهار).

بدأ الفضول يتسلل لعقل نهاوند يريد أن يعرف ما الذي أشعله مشهد عابر في ذكريات سرمد خلال يوم كان من المفترض أن تحيط البهجة بأجواءه من كل جانب لذا وضع نهاوند صمته جانبا وبادر بسؤاله (ما الذي عكر صفوك دون سابق انذار؟) .

صمت سرمد قليلا ثم قال تذكرت العيد , فقال نهاوند العيد ! أتقصد عيد الفطر والأضحى؟ أم التعبير الشعبي عن الكارثة ؟ , قال سرمد نعم اقصد عيد الفطر تحديدا انه يمثل لي كابوسا مخيفا منذ أن استوعبت معنى كلمة عيد , ظهرت الدهشة على محيا نهاوند وهو يسمع كلام صديقه فأراد أن يتبين منه أكثر فقال له (ليش يشكل لك العيد كابوس رغم انه أيام فرح وسرور؟).

تنفس سرمد بعمق وتغير صوته لنبرة يسكنها الحزن وقال : تعاستي في العيد أن نصيبي منه ثياب جديدة وحذاء جديد وربما عطر جديد وجميعها جمادات لا تحدثني ولا أحادثها فأخرج متزينا بها و أمشي في الطريق إلى صلاة العيد لا يرافقني الا ظلي وحزني وأنا أرى من حولي يهنئون بعضهم و الصغير يقبل رأس الكبير و الأباء والأمهات فرحين بأطفالهم و الأطفال تغمرهم السعادة والسرور بأكل الحلوى و الحصول على العيديات و أنا كتب علي أن أتأمل هذه المشاهد كل عام غير أنني لا أملك شريطا مماثلا من الذكريات فأعياد الطفولة هي ذاتها أعياد الشباب ومن نفس الموقع أقف متأملا ومتحسرا كبقعة كتب عليها الظلام فلا تصلها أشعة الشمس أو كمصور نذر نفسه لتوثيق فرحة الآخرين وحينما مات لم يكن في صوره صورة تخلد ملامحه.

سيطر نهاوند على تأثره ولم يبدي أي ردة فعل تشعر سرمد أن الأمر ليست على ما يرام ثم قال له (لنفسك عليك حق احتفي بها واصنع سعادتها بنفسك) وهنا غضب سرمد ورد وهو منفعل (كلكم تقولون نفسك ونفسك ونفسك .. هل أكلم نفسي في كل مرة .. أو هل يمكن لنفسي أن تحتضن نفسي وتهنئها بالعيد ؟ أو أن نفسي الخارقة قادرة على أن تلعب جميع الأدوار الأب والأم والأخوة والأعمام والأخوال ووو الخ وتصنع أجواء حميمية ساحرة لا يحب المرء أن ينفك عنها ؟ )أرجوك يا نهاوند لا تنظر علي وتلعب دور الفيلسوف عليك أن ترى الصورة بشكلها الحقيقي حيث البكاء ليلا منذ سماع اعلان العيد والنوم نهارا بعد جرعات التعاسة التي أتغذى عليها أول أيام العيد ثم وحدة وترقب وبحث عن الاهتمام حتى من الأشخاص العابرين انها أيام تمثل في وجداني معنى الخذلان الذي يشارك فيه الجميع وأعتبرهم مذنبون وهم في الواقع لا ذنب لهم سوى انني انتمي لعالم خالي من البشر …. يتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هوبال: فلسفة النجاة بالهلاك

لماذا يا عنز الشعيب؟

قصة قصيرة : وجبة كاملة الدسم