متى أشتري الخبز؟

 


في طفولتي لم أكن طفلا شديد الهدوء ولا شديد الإزعاج و ما بين هذه وتلك تتمحور حياتي بين مدح الآخرين لي أمام أبنائهم بعبارة "كونوا مثل فهد" التي كانت تجعلني أتطاير فرحا وأشعر بتميزي بينهم وما بين توبيخ أمي رحمها الله إما بسبب الدراسة أو الشجار مع أخوتي أو بسبب "الخبز"!.
نعم انه "الخبز" أو ما في حكمه من احتياجات المنزل التي كنت أراها في ذلك الزمن قطعة من الشقاء وحكما بالأشغال الشاقة وكل ما يدور في ذهني أنه لا شيء يستحق أن أترك مشاهدة مسلسلي المفضل أو مباراة فريقي من أجل شراء الخبز بيد أنني لم أكن أملك الخيار للرفض فأمي لا تتهاون في التربية والتقريع ولديها "خيزرانة" ذات قوام نحيف لازلت أتذكر أثرها "المبرح".
في تلك الأيام كنت طفلا ومن ثم مراهقا مصاب بداء إلتهاب الأعصاب الذي ترك تأثيره على قدراتي في المشي والحركة غير أن عنفوان الصبا و حماقة المراهقة لا يجعلان المرء يدرك النعمة العظيمة التي يمتلكها في تلك اللحظة وأنه ربما بعد فترة من الزمن سوف يحن حتى لطلب شراء الخبز في ظهرية حارقة في يوم من أيام مكة الصيفية التي تجعل الماء ساخنا والبيض ناضجا و تجعل أخلاق البشر في أدنى مستوياتها على الإطلاق.
لم تمضي سنوات طويلة حتى أفقدني إلتهاب الأعصاب القدرة على المشي وأصبحت أستخدم الكرسي المتحرك للتنقل والحركة ويا له من فرق شاسع لم أعرف قيمته وأنا أتذمر من الحركة وتلبية طلبات أمي.
لقد عرفت اليوم حقا معنى النعم التي يغفل الإنسان عن شكرها فتلك "المشية" المرتبكة وذلك التوازن المهزوز كانت تجعل العالم بأسره بين يدي فبهما معا كنت أذهب وأعود ولم أترك شارعا او زقاقا في حينا إلا ومررت به او لعبت فيه مع أقراني ولم أترك محلا تجاريا إلا وقد تعرفت على الباعة وعرفوني وأصبحت زبونهم الدائم وكذلك كنت انتقل إلى مدرستي التي تبعد عن منزلنا حوالي اثنان كيلو متر دون أن احتاج إلى خدمة من أحد.
واليوم بعد سنوات من الجلوس على الكرسي المتحرك باتت معلوماتي عن الشارع هي ما تبقى في ذاكرتي من زمن مضى وخروجي من المنزل يحتاج إلى تخطيط لا يقل كفاءة عن تخطيط "إنزال نورماندي" حتى تنجح العملية بسلام ، ولا أخفيكم أنني أشتقت للأزقة و لوقفتي المترنحة في طابور الصباح وإلى زحمة المخبز وأرفف الحلويات في البقالة وإلى الركض على طريقتي من أجل اللحاق ببائع الآيس كريم الشعبي وإلى المشي ذهابا وإيابا في حارتنا في خلوة مع النفس لا يقطعها الا نداء أحد الأصدقاء من الجيران بالسؤال المعتاد "تلعب معنا كورة؟".
لا أقول أنني غير راضي أو متذمر من وضعي على العكس تماما فأنا أحمد الله على حالي دائما وأحب ما أنا فيه بكل صعوباته لأنه الخير الذي أراده الله لي ولكنها دعوة لنفسي والآخرين من أجل شكر النعم التي أعتدنا وجودها حتى ظننا أنها لا تزول ولم نعد نشكر الخالق سبحانه وتعالى عليها فلا تنسوا شكر الله في كل وقت وحين.
الختام
هل ما زالت رائحة الخبز في المخابز الشعبية كما كانت سابقا؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هوبال: فلسفة النجاة بالهلاك

لماذا يا عنز الشعيب؟

قصة قصيرة : وجبة كاملة الدسم