أجمل من تفاحة نيوتن
تعلمنا في المدرسة قصة قانون الجاذبية التي وضعه نيوتن بعد أن سقطت عليه تفاحه وأظن أن تلك التفاحة المسكينة نالت من الدعوات واللعنات أكثر مما أكلت البشرية من هذه الفاكهة حلوة المذاق ومختلفة الألوان. فلا تكاد تجد تلميذا إلا وقال ذات ليلة تسبق الإمتحانات "ماذا لو أن نيوتن أكل التفاحة؟ لن يهتز العالم بكل تأكيد" طبعا تلك هواجيس التلاميذ قبيل الامتحانات وهي طبيعية جدا بسبب معاناتهم مع المذاكرة الاستحضار ولا تقلل من قيمة قانون الجاذبية وأهميته في الحياة اليوم.
"ماذا لو أن نيوتن أكل التفاحة؟ لن يهتز العالم بكل تأكيد"
على النقيض تماما هنالك في شرق آسيا ، تقول الأسطورة بأن طبيبا صينيا سقطت بضعة أوراق من شجرة كان يغلي تحتها ماءً ، فتغير لون الماء وهذا ما لفت نظر الطبيب الذي أكتشف المشروب الأكثر روعة في التاريخ "الشاي" يا لذلك الحدث التاريخي الذي لا تختزله الكلمات ولم ينصفه التدوين ولا حتى الموضة و "الهبات" كالمشروبات الأخرى التي أخذت نصيبها.
"الشاي.. يا لذلك الحدث التاريخي الذي لا تختزله الكلمات ولم ينصفه التدوين"
اكتشف الشاي حسب المصادر في الصين قبل أكثر من 2700 سنة ، لكنه ظل حبيس الحالة المحلية حتى تحرر من القيود بفضل تجارة طريق الحرير وأخذ يغزو العالم بفضل مذاقه الجميل وقدرته المدهشة على تحسين المزاج وطوي صفحة الهموم الآنية والقديمة معا.
تاريخيا ربما تأخر وصول الشاي إلى الجزيرة العربية وبلاد الشام وشمال أفريقيا فعمر المشروب في الثقافة العربية قصير نسبيا مقارنة بعمره الطويل ، لكن إذا كان الإنجليز قد أعطوا الشاي صفة رسمية وتوقيت مقدس فأجزم أن العرب قالوا في الشاي ما لم يقله مالك في الخمر وما لم تجد به قريحة عمر بن أبي ربيعة في النساء.
"إذا كان الإنجليز قد أعطوا الشاي صفة رسمية وتوقيت مقدس فأجزم أن العرب قالوا في الشاي ما لم يقله مالك في الخمر"
أصبح الشاي أكثر من مجرد مشروب ساخن في الثقافة العربية ، بل احتل منزلة الرفيق والمؤنس والشريك في القرارات المصيرية والتافهة على حد سواء.
على شرف الشاي صدح صوت الطرب في المقاهي من الحجاز حتى القاهرة ، هنا في مقاهي الحجاز كان الشاي يتزين بالنباتات العطرية مثل النعناع والحبق ، ويكتمل المزاج و "الكيف" مع صوت المذياع الذي يبث أغاني طارق عبدالحكيم وطلال مداح ومحمد عبده وآخرين.
وكما الحال في الحجاز كانت القاهرة التي اشتهرت بالمقاهي العامرة وفيها أصبحت "كوباية" الشاي هي المكافأة المجزية بعد يوم العمل الشاق والطويل ، لا سيما أن صوت أم كلثوم أو مطربي المقاهي الشعبيين يحتاج إلى هكذا مشروب أنيق اللون رشيق القوام لذيذ المذاق حتى تكتمل قيمة السهرة والجلسة في المقهى.
"كوباية الشاي هي المكافأة المجزية بعد يوم العمل الشاق والطويل"
أما في العراق فقد أخذ الموضوع منحى آخر فالشاي لم يعد مجرد مشروب بل ربما نعتبره بلا مبالغة جين من جينات المجتمع العراقي وقد سمعت عراقي ذات يوم يقول حاجتين لا يتنازل عن جودتهم العراقي حتى لو مات جوعاً "الچاي و الچقاير" ولا غرابة أن يتغنى الفن العراقي من خلال رموزه ناظم الغزالي وسليمة مراد بالشاي من خلال أغنية "خدري الچاي خدري" والتي تعتبر أشهر أغنية تغنت بالمشروب الصيني العتيق و ربطته بالغرام والعشق.
"حاجتين لا يتنازل عن جودتهم العراقي حتى لو مات جوعاً: الچاي و الچقاير"
كذلك حال الشاي في كل الدول العربية ، رمزا للضيافة وصديقا للكفاح واللحظات الصعبة والأوقات البطيئة واسألوا العمال و الفلاحين و سائقي الشاحنات على الخطوط السريعة وأصحاب المهن الميدانية عن تأثير الشاي على مزاجهم واستمرار حياتهم العملية الصعبة و ربما لو لا وجود هذا الخل الوفي لما استطاعوا معها صبرا.
"كم من مشكلة عصية انحلت بعد براد شاي ، وكم من معدة فارغة شبعت بعد كوب شاي مع قطعة خبز"
نحن اليوم مدينون جدا لتلك النسمة التي هبت وأسقطت تلك الأوراق في الماء الساخن ، فكم من مشكلة عصية انحلت بعد "براد" شاي ، وكم من معدة فارغة شبعت بعد كوب شاي مع قطعة خبز ، وكم من أنفس صبرت على مرارة الحياة بـ تحلية الشاي.
إذا كانت تفاحة نيوتن قد تلقت ما تلقت من الدعوات والشتائم ، أعتقد أن "قِدر" الطبيب الصيني الذي سخن فيه الماء وسقطت به أوراق الشاي قد تلقى الكثير من الدعوات والحب الصادق وإذا كنا نريد أن نصنع تمثالا مشتركا بين بلدان الشرق الأوسط فلا يوجد أجدر من تخليد لحظة اكتشاف الشاي حتى تتعرف الأجيال على الخل الوفي و تتيقن بأنه ليس من المستحيلات.
تعليقات
إرسال تعليق